كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ (258)}.
وإدخال العرب إلى في هذا الموضع على جهة التعجّب كما تقول للرجل:
أما ترى إلى هذا! والمعنى- واللّه أعلم-: هل رأيت مثل هذا أو رأيت هكذا! والدليل على ذلك أنه قال: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ فكأنه قال: هل رأيت كمثل الذي حاجّ إبراهيم في ربه: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَة عَلى عُرُوشِها} وهذا في جهته بمنزلة ما أخبرتك به في مالك وما منعك. ومثله قول اللّه تبارك وتعالى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} ثم قال تبارك وتعالى: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} فجعل اللام جوابا وليست في أوّل الكلام. وذلك أنك إذا قلت: من صاحب هذه الدار؟
فقال لك القائل: هي لزيد، فقد أجابك بما تريد. فقوله: زيد ولزيد سواء في المعنى. فقال: أنشدنى بعض بنى عامر:
فأعلم أننى سأكون رمسا ** إذا سار النواجع لا يسير

فقال السائرون لمن حفرتم ** فقال المخبرون لهم وزير

ومثله في الكلام أن يقول لك الرجل: كيف أصبحت؟ فتقول أنت: صالح، بالرفع، ولو أجبته على نفس كلمته لقلت: صالحا. فكفاك إخبارك عن حالك من أن تلزم كلمته. ومثله قول اللّه تبارك وتعالى: {ما كانَ مُحَمَّد أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ} وإذا نصبت أردت: ولكن كان رسول اللّه، وإذا رفعت أخبرت، فكفاك الخبر مما قبله. وقوله: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتًا بَلْ أَحْياء} رفع وهو أوجه من النصب، لأنه لو نصب لكان على: ولكن احسبهم أحياء فطرح الشكّ من هذا الموضع أجود. ولو كان نصبا كان صوابا كما تقول: لا تظننه كاذبا، بل اظننه صادقا. وقال اللّه تبارك وتعالى: {أيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ} إن شئت جعلت نصب قادرين من هذا التأويل، كأنه في مثله من الكلام قول القائل: أتحسب أن لن أزورك؟ بل سريعا إن شاء اللّه، كأنه قال: بلى فاحسبنى زائرك. وإن كان الفعل قد وقع على أن لن نجمع فإنه في التأويل واقع على الأسماء. وأنشدنى بعض بنى فقعس:
أجدّك لن ترى بثعيلبات ** ولا بيدان ناجية ذمولا

ولا متدارك والشمس طفل ** ببعض نواشغ الوادي حمولا

فقال: ولا متدارك، فدلّ ذلك على أنه أراد ما أنت براء بثعيلبات كذا ولا بمتدارك.
وقد يقول بعض النحويّين: إنا نصبنا {قادرين} على أنها صرفت عن نقدر، وليس ذلك بشئ، ولكنه قد يكون فيه وجه آخر سوى ما فسّرت لك: يكون خارجا من {نجمع} كأنه في الكلام قول القائل: أتحسب أن لن أضربك؟ بلى قادرا على قتلك، كأنه قال: بلى أضربك قادرا على أكثر من ضربك.
وقوله: {كَمْ لَبِثْتَ} وقد جرى الكلام بالإدغام للثاء لقيت التاء وهى مجزومة.
وفي قراءة عبد اللّه {اتّختّم العجل} {وإنى عتّ بربي وربكم} فأدغمت الذال أيضا عند التاء. وذلك أنهما متناسبتان في قرب المخرج، والثاء والذال مخرجهما ثقيل، فأنزل الإدغام بهما لثقلهما ألا ترى أن مخرجهما من طرف اللسان. وكذلك الظاء تشاركهن في الثقل. فما أتاك من هذه الثلاثة الأحرف فأدغم. وليس تركك الإدغام بخطأ، إنما هو استثقال. والطاء والدال يدغمان عند التاء أيضا إذا أسكنتا كقوله: {أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ} تخرج الطاء في اللفظ تاء، وهو أقرب إلى التاء من الأحرف الأول، تجد ذلك إذا امتحنت مخرجيهما.
وقوله: {لَمْ يَتَسَنَّهْ} جاء التفسير: لم يتغير بمرور السنين عليه، مأخوذ من السنة، وتكون الهاء من أصله من قولك: بعته مسانهة، تثبت وصلا ووقفا. ومن وصله بغير هاء جعله من المساناة لأن لام سنة تعتقب عليها الهاء والواو، وتكون زائدة صلة بمنزلة قوله فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ فمن جعل الهاء زائدة جعل فعّلت منه تسنيت ألا ترى أنك تجمع السنة سنوات فيكون تفعّلت على صحة، ومن قال في تصغير السنة سنينة وإن كان ذلك قليلا جاز أن يكون تسنيت تفعّلت أبدلت النون بالياء لمّا كثرت النونات، كما قالوا تظنّيت وأصله الظن. وقد قالوا هو مأخوذ من قوله: {مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} يريد: متغيّر. فإن يكن كذلك فهو أيضا مما أبدلت نونه ياء. ونرى أن معناه مأخوذ من السنة أي لد بن ثابت كذلك، والإنشاز نقلها إلى موضعها.
وقرأها ابن عباس: {ننشرها}. إنشارها: إحياؤها. واحتجّ بقوله: {ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ} وقرأها الحسن- فيما بلغنا- {ننشرها} ذهب إلى النشر والطىّ. والوجه أن تقول: أنشر اللّه الموتى فنشروا إذا حيوا، كما قال الأعشى:
يا عجبا للميت الناشر

وسمعت بعض بنى الحارث يقول: كان به جرب فنشر، أي عاد وحيى. وقوله: {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير} جزمها ابن عبّاس، وهى في قراءة أبىّ وعبد اللّه جميعا: قيل له اعلم، واحتجّ ابن عباس فقال: أهو خير من إبراهيم وأفقه؟ فقد قيل له: {وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيز حَكِيم والعامّة} تقرأ: أعلم أن الله وهو وجه حسن لأن المعنى كقول الرجل عند القدرة تتبين له من أمر اللّه: أشهد أن لا إله إلا اللّه والوجه الآخر أيضا بيّن.
وقوله: {فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} ضمّ الصاد العامّة. وكان أصحاب عبد اللّه يكسرون الصاد. وهما لغتان. فأمّا الضمّ فكثير، وأما الكسر ففى هذيل وسليم. وأنشدنى الكسائىّ عن بعض بنى سليم:
وفرع يصير الجيد وحف كأنه ** على الليت قنوان الكروم الدوالح

ويفسّر معناه: قطّعهن، ويقال: وجّههن. ولم نجد قطّعهنّ معروفة من هذين الوجهين، ولكنى أرى- واللّه أعلم- أنها إن كانت من ذلك أنها من صريت تصرى، قدّمت ياؤها كما قالوا: عثت وعثيت، وقال الشاعر:
صرت نظرة لو صادفت جوز دارع ** غدا والعواصى من دم الجوف تنعر

والعرب تقول: بات يصرى في حوضه إذا استقى ثم قطع واستقى فلعله من ذلك.
وقال الشاعر:
يقولون إن الشام يقتل أهله ** فمن لى إن لم آته بخلود

تعرّب آبائي فهلّا صراهم من ال ** موت أن لم يذهبوا وجدودى

وقوله: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّة مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ (266)}.
ثم قال بعد ذلك {وأصابه الكبر} ثم قال: {فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت} فيقول القائل: فهل يجوز في الكلام أن يقول: أتودّ أنّ تصيب مالا فضاع، والمعنى: فيضيع؟ قلت: نعم ذلك جائز في وددت لأن العرب تلقاها مرّة بأن ومرّة بلو فيقولون: لوددت لو ذهبت عنا، ووددت أن تذهب عنا، فلمّا صلحت بلو وبأن ومعناهما جميعا الاستقبال استجازوا أن يردّوا فعل بتأويل لو، على يفعل مع أن. فلذلك قال: فأصابها، وهى في مذهبه بمنزلة لو إذ ضارعت إن بمعنى الجزاء فوضعت في مواضعها، وأجيبت إن بجواب لو، ولو بجواب إن قال اللّه تبارك وتعالى: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَة مُؤْمِنَة خَيْر مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} والمعنى- واللّه أعلم-: وإن أعجبتكم ثم قال وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ فأجيبت لئن بإجابة لو ومعناهما مستقبل. ولذلك قال في قراءة أبىّ {ودّ الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلوا} ردّه على تأويل: ودّوا أن تفعلوا. فإذا رفعت {فيميلون} رددت على تأويل لو كما قال اللّه تبارك وتعالى: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} وقال أيضا {وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} وربما جمعت العرب بينهما جميعا قال اللّه تبارك وتعالى: {وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا} وهو مثل جمع العرب بين ما وإن وهما جحد قال الشاعر:
قد يكسب المال الهدان الجافي ** بغير لا عصف ولا اصطراف

وقال آخر:
ما إن رأينا مثلهن لمعشر سود ** لرءوس فوالج وفيول

وذلك لاختلاف اللفظين يجعل أحدهما لغوا. ومثله قول الشاعر:
من النفر اللاء الذين إذا هم ** تهاب اللئام حلقة الباب قعقعوا

ألا ترى أنه قال: اللاء الذين، ومعنا هما الذين، استجيز جمعهما لاختلاف لفظهما، ولو اتفقا لم يجز. لا يجوز ما ما قام زيد، ولا مررت بالذين الذين يطوفون. وأمّا قول الشاعر:
كما ما امرؤ في معشر غير رهطه ** ضعيف الكلام شخصه متضائل

فإنما استجازوا الجمع بين ما وبين ما لأن الأولى وصلت بالكاف،- كأنها كانت هي والكاف اسما واحدا- ولم توصل الثانية، واستحسن الجمع بينهما. وهو في قول اللّه كَلَّا لا وَزَرَ كانت لا موصولة، وجاءت الأخرى مفردة فحسن اقترانهما. فإذا قال القائل: ما ما قلت بحسن جاز ذلك على غير عيب لأنه يجعل ما الأولى جحدا والثانية في مذهب الذي. وكذلك لو قال: من من عندك؟ جاز لأنه جعل من الأول استفهاما، والثاني على مذهب الذي. فإذا اختلف معنى الحرفين جاز الجمع بينهما.
وأمّا قول الشاعر:
كم نعمة كانت لها ** كم كم وكم

إنما هذا تكرير حرف، لو وقعت على الأوّل أجزأك من الثاني. وهو كقولك للرجل: نعم نعم، تكررها، أو قولك: اعجل اعجل، تشديدا للمعنى. وليس هذا من البابين الأولين في شيء. وقال الشاعر:
هلّا سألت جموع كنـ ** ـدة يوم ولّوا أين أينا

وأمّا قوله: لم أره منذ يوم يوم فإنه ينوى بالثاني غير اليوم الأوّل، إنما هو في المعنى: لم أره منذ يوم تعلم. وأمّا قوله:
نحمى حقيقتنا وبعض الـ ** ـقوم يسقط بين بينا

فإنه أراد: يسقط هو لا بين هؤلاء ولا بين هؤلاء. فكان اجتماعهما في هذا الموضع بمنزلة قولهم: هو جارى بيت بيت، ولقيته كفّة كفّة لأن الكفّتين واحدة منك وواحدة منه. وكذلك هو جارى بيت بيت معناه: بيتي وبيته لصيقان.
قال: كيف قال قوله: {َإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِل فَطَلّ (265)}.
وهذا الأمر قد مضى؟ قيل: أضمرت كان فصلح الكلام. ومثله أن تقول: قد أعتقت عبدين، فإن لم أعتق اثنين فواحدا بقيمتهما، والمعنى إلّا أكن لأنه ماض فلابد من إضمار كان لأن الكلام جزاء. ومثله قول الشاعر:
إذا ما انتسبنا لم تلدنى لئيمة ** ولم تجدى من أن تقرّى بها بدّا

وقوله: {وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ (267)}.
فتحت أن بعد إلّا وهى في مذهب جزاء. وإنما فتحتها لأن إلا قد وقعت عليها بمعنى خفض يصلح. فإذا رأيت أن في الجزاء قد أصابها معنى خفض أو نصب أو رفع انفتحت. فهذا من ذلك. والمعنى- واللّه أعلم- ولستم بآخذيه إلا على إغماض، أو بإغماض، أو عن إغماض، صفة غير معلومة. ويدلك على أنه جزاء أنك تجد المعنى: إن أغمضتم بعض الإغماض أخذتموه. ومثله قوله: {إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ} ومثله {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} هذا كلّه جزاء، وقوله: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِل ذلِكَ غَدًا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ} ألا ترى أن المعنى: لا تقل إنى فاعل إلا ومعها إن شاء اللّه فلمّا قطعتها إلا عن معنى الابتداء، مع ما فيها من نيّة الخافض فتحت. ولو لم تكن فيها إلّا تركت على كسرتها من ذلك أن تقول: أحسن إن قبل منك. فإن أدخلت إلّا قلت: أحسن إلا ألّا يقبل منك. فمثله قوله: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى} و{أَنْ تَصُومُوا خَيْر لَكُمْ} هو جزاء، المعنى: إن تصوموا فهو خير لكم. فلما أن صارت أن مرفوعة ب {خير} صار لها ما يرافعها إن فتحت وخرجت من حدّ الجزاء. والناصب كذلك.
ومثله من الجزاء الذي إذا وقع عليه خافض أو رافع أو ناصب ذهب عنه الجزم قولك: اضربه من كان، ولا آتيك ما عشت. فمن وما في موضع جزاء، والفعل فيهما مرفوع في المعنى لأنّ كان والفعل الذي قبله قد وقعا على من وما فتغيّر عن الجزم ولم يخرج من تأويل الجزاء قال الشاعر:
فلست مقاتلا أبدا قريشا ** مصيبا رغم ذلك من أصابا

في تأويل رفع لوقوع مصيب على من. ومثله قول اللّه عزّ وجلّ: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ} إن جعلت من مردودة على خفض {الناس} فهو من هذا، و{استطاع} في موضع رفع، وإن نويت الاستئناف بمن كانت جزاء، وكان الفعل بعدها جزما، واكتفيت بما جاء قبله من جوابه. وكذلك تقول في الكلام: أيّهم يقم فاضرب، فإن قدّمت الضرب فأوقعته على أىّ قلت اضرب أيّهم يقوم قال بعض العرب: فأيّهم ما أخذها ركب على أيهم يريد. ومنه قول الشاعر:
فإنى لآتيكم تشكّر ما مضى ** من الأمر واستيجاب ما كان في غد

لأنه لا يجوز لو لم يكن جزاء أن تقول: كان في غد لأن كان إنما خلقت للماضى إلّا في الجزاء فإنها تصلح للمستقبل. كأنه قال: استيجاب أىّ شيء كان في غد.
ومثل إن في الجزاء في انصرافها عن الكسر إلى الفتح إذا أصابها رافع قول العرب: قلت إنك قائم فإنّ مكسورة بعد القول في كل تصرّفه. فإذا وضعت مكان القول شيئا في معناه مما قد يحدث خفضا أو رفعا أو نصبا فتحت أنّ، فقلت:
ناديت أنك قائم، ودعوت، وصحت وهتفت. وذلك أنك تقول: ناديت زيدا، ودعوت زيدا، وناديت بزيد، وهتفت بزيد فتجد هذه الحروف تنفرد بزيد وحده والقول لا يصلح فيه أن تقول: قلت زيدا، ولا قلت بزيد. فنفذت الحكاية في القول ولم تنفذ في النداء لاكتفائه بالأسماء. إلا أن يضطرّ شاعر إلى كسر إنّ في النداء وأشباهه، فيجوز له كقوله:
إنى سأبدى لك فيما أبدى ** لى شجنان شجن بنجد

وشجن لى ببلاد الهند

لو ظهرت إنّ في هذا الموضع لكان الوجه فتحها. وفى القياس أن تكسر لأن رفع الشجنين دليل على إرادة القول، ويلزم من فتح أنّ لو ظهرت أن تقول:
لى شجنين شجنا بنجد.
فإذا رأيت القول قد وقع على شيء في المعنى كانت أنّ مفتوحة. من ذلك أن تقول: قلت لك ما قلت أنك ظالم لأنّ ما في موضع نصب. وكذلك قلت: زيد صالح أنه صالح لأن قولك قلت زيد قائم في موضع نصب. فلو أردت أن تكون أنّ مردودة على الكلمة التي قبلها كسرت فقلت: قلت ما قلت: إن أباك قائم، وهى الكلمة التي قبلها وإذا فتحت فهى سواها. قول اللّه تبارك وتعالى: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ أَنَّا} وإنا، قد قرئ بهما. فمن فتح نوى أن يجعل أنّ في موضع خفض، ويجعلها تفسيرا للطعام وسببه كأنه قال: إلى صبّنا الماء وإنباتنا ما أنبتنا. ومن كسر نوى الانقطاع من النظر عن إنّا كأنه قال: فلينظر الإنسان إلى طعامه، ثم أخبر بالاستئناف.
وقوله: {لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافًا (273)}.
ولا غير إلحاف. ومثله قولك في الكلام: قلّما رأيت مثل هذا الرجل ولعلّك لم تر قليلا ولا كثيرا من أشباهه.
وقوله: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا (275)}.
أي في الدنيا {لا يَقُومُونَ في الآخرة إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ} والمسّ: الجنون، يقال رجل ممسوس.
وقوله: {وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا (278)}.
يقول القائل: ما هذا الربا الذي له بقيّة، فإن البقيّة لا تكون إلّا من شيء قد مضى؟ وذلك أن ثقيفا كانت تربى على قوم من قريش، فصولحوا على أن يكون ما لهم على قريش من الربا لا يحطّ، وما على ثقيف من الربا موضوع عنهم. فلمّا حلّ الأجل على قريش، وطلب منهم الحقّ نزل على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فهذه تفسير البقيّة. وأمروا بأخذ رءوس الأموال فلم يجدوها متيسّرة، فأبوا أن يحطّوا الربا ويؤخّروا رءوس الأموال، فأنزل اللّه تبارك وتعالى: {وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدّقوا خير لكم إن كنتم تعلمون}.
{وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ} من قريش {فَنَظِرَة} يا ثقيف {إلى ميسرة} وكانوا محتاجين، فقال تبارك وتعالى: {وَأَنْ تَصَدَّقُوا} برءوس الأموال {خَيْر لَكُمْ}.
وقوله: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ (281)}.
حدثنا محمد بن الجهم عن الفرّاء قال: حدّثنى أبو بكر بن عيّاش عن الكلبي عن أبى صالح عن ابن عباس قال: آخر آية نزل بها جبريل صلى اللّه عليه وسلم {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} هذه، ثم قال: ضعها في رأس الثمانين والمائتين من البقرة، وقوله: {إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ (282)}.
هذا الأمر ليس بفريضة، إنما هو أدب ورحمة من اللّه تبارك وتعالى. فإن كتب فحسن، وإن لم يكتب فلا بأس. وهو مثل قوله: {وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا} أي فقد أبيح لكم الصيد. وكذلك قوله: {فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} ليس الانتشار والابتغاء بفريضة بعد الجمعة، إنما هو إذن.
وقوله: {وَلا يَأْبَ كاتِب أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ} أمر الكاتب ألّا يأبى لقلّة الكتّاب كانوا على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.
وقوله: {فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} فأمر الذي عليه الدين بأن يملّ لأنه المشهود عليه.
ثم قال: {فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا} يعنى جاهلا {أَوْ ضَعِيفًا} صغيرا أو امرأة {أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ} يكون عييّا بالإملاء {فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ} يعنى صاحب الدين. فإن شئت جعلت الهاء للذى ولى الدين، وإن شئت جعلتها للمطلوب.
كلّ ذلك جائز.
ثم قال تبارك وتعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُل وَامْرَأَتانِ} أي فليكن رجل وامرأتان فرفع بالردّ على الكون. وإن شئت قلت: فهو رجل وامرأتان.
ولو كانا نصبا أي فإن لم يكونا رجلين فاستشهدوا رجلا وامرأتين. وأكثر ما أتى في القرآن من هذا بالرفع، فجرى هذا معه.
وقوله: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما} بفتح أن، وتكسر. فمن كسرها نوى بها الابتداء فجعلها منقطعة مما قبلها. ومن فتحها فهو أيضا على سبيل الجزاء إلا أنه نوى أن يكون فيه تقديم وتأخير. فصار الجزاء وجوابه كالكلمة الواحدة. ومعناه- واللّه أعلم- استشهدوا امرأتين مكان الرجل كيما تذكّر الذاكرة الناسية إن نسيت فلمّا تقدّم الجزاء اتّصل بما قبله، وصار جوابه مردودا عليه.
ومثله في الكلام قولك: إنه ليعجبنى أن يسأل السائل فيعطى فالذى يعجبك الإعطاء إن يسأل، ولا يعجبك المسألة ولا الافتقار. ومثله: استظهرت بخمسة أجمال أن يسقط مسلم فأحمله، إنما استظهرت بها لتحمل الساقط، لا لأن يسقط مسلم. فهذا دليل على التقديم والتأخير.
ومثله في كتاب اللّه {وَلَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَة بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا} ألا ترى أن المعنى: لو لا أن يقولوا إن أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم: هلّا أرسلت إلينا رسولا. فهذا مذهب بيّن.
وقوله: {وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا} إلى الحاكم.
{إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً} ترفع وتنصب. فإن شئت جعلت تُدِيرُونَها في موضع نصب فيكون لكان مرفوع ومنصوب. وإن شئت جعلت: {تُدِيرُونَها} في موضع رفع. وذلك أنه جائز في النكرات أن تكون أفعالها تابعة لأسمائها لأنك تقول: إن كان أحد صالح ففلان، ثم تلقى أحدا فتقول: إن كان صالح ففلان، وهو غير موقّت فصلح نعته مكان اسمه إذ كانا جميعا غير معلومين، ولم يصلح ذلك في المعرفة لأن المعرفة موقّتة معلومة، وفعلها غير موافق للفظها ولا لمعناها.
فإن قلت: فهل يجوز أن تقول: كان أخوك القاتل، فترفع لأن الفعل معرفة والاسم معرفة فترفعا للاتفاق إذا كانا معرفة كما ارتفعا للاتفاق في النكرة؟
قلت: لا يجوز ذلك من قبل أن نعت المعرفة دليل عليها إذا حصّلت، ونعت النكرة متّصل بها كصلة الذي. وقد أنشدنى المفضّل الضّبىّ:
أفاطم إنى هالك فتبيّنى ** ولا تجزعى كلّ النساء يئيم

ولا أنبأن بأنّ وجهك شانه ** خموش وإن كان الحميم الحميم

ينهاها عن الحزن ومظاهره على ميت، وإن كان حميما لها قريبا.
فرفعهما. وإنما رفع الحميم الثاني لأنه تشديد للأول. ولو لم يكن في الكلام الحميم لرفع الأول. ومثله في الكلام: ما كنا بشيء حين كنت، تريد حين صرت وجئت، فتكتفى كان بالاسم.
ومما يرفع من النكرات قوله: {وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ} وفى قراءة عبد اللّه وأبىّ: {وإن كان ذا عسرة} فهما جائزان إذا نصبت أضمرت في كان اسما كقول الشاعر:
للّه قومى أىّ قوم لحرّة ** إذا كان يوما ذا كواكب أشنعا

وقال آخر:
أعينىّ هلّا تبكيان عفاقا ** إذا كان طعنا بينهم وعناقا

وإنما احتاجوا إلى ضمير الاسم في كان مع المنصوب لأن بنية كان على أن يكون لها مرفوع ومنصوب، فوجدوا كان يحتمل صاحبا مرفوعا فأضمروه مجهولا.
وقوله: {فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ} فقد أظهرت الأسماء. فلو قال: فإن كان نساء جاز الرفع والنصب. ومثله: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ} ومثله: {إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} ومن قال: {تكون ميتة} جاز فيه الرفع والنصب. وقلت تكون لتأنيث الميتة، وقوله: {إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ} فإن قلت: إن المثقال ذكر فكيف قال تكن؟ قلت: لأن المثقال أضيف إلى الحبّة وفيها المعنى كأنه قال: إنها إن تك حبّة وقال الشاعر:
على قبضة مرجوّة ظهر كفّه ** فلا المرء مستحى ولا هو طاعم

لأنه ذهب إلى الكفّ ومثله قول الآخر:
وتشرق بالقول الذي قد أذعته ** كما شرقت صدر القناة من الدم

وقوله:
أبا عرو لا تبعد فكلّ ابن حرّة ** ستدعوه داعى موتة فيجيب

فأنّث فعل الداعي وهو ذكر لأنه ذهب إلى الموتة. وقال الآخر:
قد صرّح السير عن كتمان واب ** تذلت وقع المجاجن بالمهريّة الذّقن

فأنث فعل الوقع وهو ذكر لأنه ذهب إلى المحاجن وقوله وَلا يُضَارَّ كاتِب وَلا شَهِيد أي لا يدع كاتب وهو مشغول، ولا شهيد.
وقوله: {فَرِهان مَقْبُوضَة (283)}.
وقرأ مجاهد فرهن على جمع الرهان كما قال كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ لجمع الثمار.
وقوله: {وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِم قَلْبُهُ} وأجاز قوم قلبه بالنصب فإن يكن حقا فهو من جهة قولك: سفهت رأيك وأثمت قلبك.
وقوله: {غُفْرانَكَ رَبَّنا (285)}.
مصدر وقع في موضع أمر فنصب. ومثله: الصلاة الصلاة. وجميع الأسماء من المصادر وغيرها إذا نويت الأمر نصبت. فأمّا الأسماء فقولك: اللّه اللّه يا قوم ولو رفع على قولك: هو اللّه، فيكون خبرا وفيه تأويل الأمر لجاز أنشدنى بعضهم:
إن قوما منهم عمير وأشبا ** ه عمير ومنهم السفّاح

لجديرون بالوفاء إذا قا ** لأخو النجدة السلاح السلاح

ومثله أن تقول: يا هؤلاء الليل فبادروا، أنت تريد: هذا الليل فبادروا. ومن نصب الليل أعمل فيه فعلا مضمرا قبله. ولو قيل: غفرانك ربّنا لجاز.
وقوله لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَها.
الوسع اسم في مثل معنى الوجد والجهد. ومن قال في مثل الوجد: الوجد، وفى مثل الجهد: الجهد قال في مثله من الكلام: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَها}.
ولو قيل: وسعها لكان جائزا، ولم نسمعه.
وقوله رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْرًا والإصر: العهد كذلك، قال في آل عمران وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي والإصر هاهنا: الإثم إثم العقد إذا ضيّعوا، كما شدّد على بنى إسرائيل.
وقد قرأت القرّاء فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ يقول: فاعلموا أنتم به.
وقرأ قوم: فآذنوا أي فأعلموا.
وقال ابن عباس: فإن لم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة وقال: قد يوجد الكاتب ولا توجد الصحيفة ولا الدواة. اهـ.